الدراسات العربية في هولندا





البروفسور الدكتور يان بروخمان

إن الدور الريادي الذي أخذ يعلبه الهولنديون في القرن السابع عشر في مجال الدراسات العربية, قد جاءت متأخرة مقارنه باهتمام كل من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا بالثقافة العربية, ولا شك في أن بطء إنجاز النظم السياسية في هذه البلاد المنخفضة قد لعب الدور الأساسي, فلم تدخل الثقافة هولندا ذات السبخات إلا بحذر وذلك لصعوبة السفر والتنقل فيها, ومع أن هولندا وحتى بداية القرن الثالث عشر وكما يقول المؤرخ بسكن هويت لم تكن تملك " لا لغة ولا أسطولا, لا سلالة حاكمة ولا إكليروسا, لا نبلاء ولا نواة للطبقة الوسطى ", ولكن في القرن الثالث عشر ساهمت هولندا " مستقلة في حملة أوروبية يمكن القول بأنها أدخلتها العالم".

أما هذه " الحملة الأوروبية " فلم تكن إلا الحملة الصليبية إلى دمياط سنة 1219 والتي انتهت بهزيمة ساحقة وقد لعب الكونت الهولندي دورا مهما في هذه الحملة, وبطبيعة الحال فإن مثل هذا الاتصال لا يمكن أن يثبت أي فهم عميق لا بالإسلام ولا بالثقافة العربية, فلا عجب أن شارك الهولنديون بقية أوروبا للأجحاف بالإسلام وبالعرب الذين سموا آنذاك " بالسراسين " وقد استمر عدم فهم هذا طوال قرون الوسطى.

ولقد طرأ تغيير سريع خلال حرب الثمانين سنة 1568 – 1648 والتي كانت نتيجتها انتزاع القسم الشمالي من البلاد المنخفضة استقلاله من إسبانيا وذلك بعد صراح مرير ومعاركة ضارية, فلم تمر إلا بضع سنين على بداية هذه الحرب, حتى تأسست أول جامعة في شمال هولندا وذلك في ليدن سنة 1575, لتعذر الوصول إلى الجامعة القديمة في لوفن الواقعة في القسم الجنوبي من هولندا والتي لت تزل محتلة بالجيش الإسباني, وللحقيقة فإن صعوبة الوصول إلى الجامعة القديمة في لوفن لم يكن الباعث الوحيد لوضع حجر الأساس للجامعة الجديدة, وإنما كان الهدف من الجامعة الجديدة ومنذ البداية هو أن تكون مركز تدريب للقساوسة البروتستانت, وذلك لأن الحرب لم تكن فقط للإستقلال وإنما للحرية الدينية والإصلاح البروتستانتي الذي حاربه الحكام الكاثوليك بالنار والسيف وذلك بالمعنى الحرفي للكملة.

لقد سيطر اللاهوتيون البروتستانت في ليدن مما مكنهم منذ البداية من أن يلعبوا دورا مهما في التركيز على البحث المستقل في التوراة والإنجيل وبطيعة الحال الاهتمام باللغات التي كان الكتاب المقدس مكتوبا بها, وبما أن العهد القديم قد كتب باللغة العبرية وبالآرامية فلا عجب أن ازدهرت دراسة هذين اللغتين منذ البداية في ليدن, وبشكل منطقي أتوماتيكي أدت هذه الدراسة إلى دراسة اللغة العربية.

إن معجمية اللغة العربية العملاقة وسعة أدبها ونحوها الموصوف بالدقة, كلها مجتمعة قد وضعت حولها هالة من الأهمية وذلك من أجل فهم افضل للغة العهد القديم, وسوف يبقى هذا الباعث لدراسة العربية عنصر جذب وذلك لقرون طويلة وسوف يظهر ذلك لاحقا, فلا عجب والأمر كذلك أن يكون أول أستاذ كرسي العربية في جامعة ليدن هو نفسه أستاذ كرسي العبرية, أما اسم هذا الأستاذ فهو فان رافلينخن, وهو صهر صاحب المطبعة الشهيرة بلانتين من انتفرب, والذي بعد أن قمع الجيش الأسباني مقاومة مدينتة واحتلها سنة 1585 قام بتأسيس فرع لمطبعته في ليدن, وقد كانت اللغة العربية واحدة من اللغات التي طبع بالنتين بها الكتاب المقدس المتعدد اللغات, ولم ينشر رافلينخيوس فقط كتبا يحوي نماذج الخطوط العربية وذلك سنة 1595, بل أنه بعمله وكذه الف قاموسا عربيا قام أبناؤه بنشره بعد فواته, ولم يعمر رافلينخيوس طويلا فمات سنة 1597, وكان المدرسون الذين جاءوا بعد وفاته لتدريس اللغة العربية, أقل شأنا منه, لكن أول أستاذ مخصص شغل منصب أستاذ كرسي اللغة العربية كان فان اربين والذي عين سنة 1613 لقد درس فان اربين اللاهوت في ليدن ومن الأرجح أنه لم يكن يعرف اللغة العربية عند تخرجه عام 1608و ولقد وعى الأساتذة في ليدن مدى أهمية اللغة العربية, وخاصة العالم الفرنسي سكاليخر والذي تم تعيينه في الجامعة الفتية من أجل إضفاء بعض من البريق والأهمية عليها, وقد تعلم سكاليخر ذو البراعات المتعددة اللغة العربية فاستعمل مصادر عربية من أجل عمله التاريخي الكبير " في اصلاح التقويم ".

ومن الأرجح أن يكون سكاليخر هو الذي فتح عيني فان اربين على أهمية اللغة العربية وقام بتزويده وكان طالبا حديث العهد بالتخرج برسالة تزكية حملها معه أثناء سفره للدراسة عبر أوروبا سنة 1608 كما كان متعبا في ذلك العصر.

لقد بدأ فان اربين بدراسة العربية خلال سفره هذا ,فغادر أولا إلى إنجلترا حيث تعرف على مباديء هذه اللغة عبر المدعو بدويل الذي كان قسا في توتنهام بالقرب من لندن, والذي لم يكن أستاذا للغة العربية إذ لم يتم تأسيس مثل هذا المنصب الا سنة 1630, وبعد إقامة قصيرة في أنجلترا غادرها متوجها إلى باريس وذلك في بداية عام 1609 والذي من المحتمل أن يكون قد بدأ دراسة العربية بشكل جدي فيها, ومن الطبيعي أن يتكون رسالة التوصية التي زوده بها سكاليخر, قد دفعت العالم الشهير كازوبونوس من أن يساعده ويسمح له بفحص مخطوطاته العربية الخاصة, ولا تظهر براعة فان اربين في اللغة العربية فقط من رسالته التي وجهها إلى بدويل في سبتمبر 1609 والتي كتبها باللغة العربية وذلك بعد سنة واحد من مغادرته هولندا, وإنما يبدو هذا جليا من كتابه في النحو العربي والذي وضعه سنة 1613 أي بعد مضى أربع سنوات فقط على ابتدائه دراسة الغربية, ويعتبر هذا الإنجاز مفخرة عصر لم تتوفر فيه قواميس جيدة وبالكاد كانت هناك كتب مطبوعة بالعربية, أما كتب النحو فلم تكن على قدر كبير من الدقة في شيء, وعلى حد علمنا فإنه لم يكن لفان اربين  إلا معلم مصري واحد يدعى أبو دقنوس وقد اكتشف فان اربين بعد مضى وقت , أن مدرسه هذا لا يجيد غير العامية وأنه لا يفقه من الفصحى شيئا, ومع كل هذا فقد بقي كتاب فان اربين في النحو من أهم وسائل دراسة اللغة العربية في أوروبا مدة طويلة.

لم يشغل فان اربين منص أستاذ أول كرسي للعربية في الجامعة الهولندية إلا مدة أحد عشر عاما توفي بعدها مبكرا متأثرا بمرض الطاعون وذلك سنة 1624, وبذلك انتهت حياته التي كانت تبشر بالنجاح والعطاء, ويمكن القول أن حظ المستعربين الهولنديين كان كبيرا وذلك عندما خلفه شخص بالرغم من عدم كونه رائدا في الدراسات العربية من نفس درجة استاذه, فإنه لم يقل عنه عبقرية وتعدد براعات, كان هذا الشخص هو خول والذي ذاعت شهرته بسبب قاموسه العربي – اللاتيني, هذا القاموس الذي لم يعتبر أساسيا في عصر خول فقط, وإنما استمر استعماله حتى افي القرن التاسع عشر, وقد كلفت إدارة جامعة ليدن خول جمع عدد من المخطوطات العربية من أجل مكتبتها, وقد أسهم في البحث في الكتابات العربية في الرياضيات فقام بنشر بعضها, كما وقام بترجمة بعضها الآخر, وقد تم تعيين نفس خول هذا أستاذا للرياضيات وذلك سنة 1629, ولم تكن هذه المزاوجة لتثير الدهشة في ذلك العصر كما يحدث في أيامنا هذه, وذلك لأهمية الرياضيات العربية في القرن السابع عشر بينما كانت الرياضيات الأوروبية آخذة في التطور والنمو, ويبدو أن الدافع الأول لاهتمام خول بالعربية هو استعمالها كوسيلة من أجل فهم ما كتب بها في الرياضيات, وهذا يقودنا إلى طرح سؤال حول البواعث الأخرى التي دفعت مستعربي القرن السابع عشر في هولندا وكذلك مدراء الجامعة الهولنديين إلى هذه الدرجة من الاهتمام بدراسة اللغة العربية, وقيل أن احد هذه البواعث هو استعمال اللغة كوسيلة للتبشير المسيحي في العالم العربي, ولكن بالرغم من أشاره فان اربين في خطبته الافتتاحية التي القاها سنة 1613 منوها بالحاجة الماسة إلى معرفة اللغة العربية من أجل هذا الهدف – أي التبشير - , إلا أنه لم يقم بأي خطوة في هذا المجال , الأمر الذي يدفعنا إلى الاستنتاج من أ، هذا التنويه لم يكن أكثر من لفته تجاه الأيدولوجية الرسمية التي كانت سائدة عندئذ, كما وأن الهولنديين لم يقوما أبدا بالتبشير في العالم الناطف بالعربية, أما فيما يتعلق بفان اربيس فيدبو أن الهدف من نشر ترجمته العربية للعهد الجديد ليس لاستعماله في التبشير وإنما ليكون مادة قراءة ودراسة للطلاب, لم يبد خول خليفة فان اربين أي اهتمام فعلي بالتبشير المسيحي : ولم تكن ترجمته العربية للتعاليم الشفوية للكنسية الهولندية البروتستانتية والتي لم يتم طبعها بالعربية أبدا من أجل التبشير بين المسلمين وإنما كانت معدة من أجل المسيحيين العرب في العالم العربي, بل ومن الأرجح أنها كانت نوعا منم التنافس وإثبات الوجود بين هؤلاء المسيحيين مقابل النشاط الكاثوليكي المكثف.

كما ولم يكن السبب الأول في الاهتمام الذي ابداه المستعربون الهولنديون باللغة العربية كونها لغة التجارة والدبلوماسية وذلك بالرغم من أن فان اربين كان يقوم بترجمات رسمية للبرلمان الهولندي تماما كخول, وكذلك بالرغم من إشارة فان اربين في خطبته الافتتاحية المذكورة إلى أهمية اللغة العبية كلغة التجارة في منطقة البحر المتوسط, إضافة إلى أن خول كان السكرتير الأول في القنصلية الهولندية في حلب كما وأنه اشترك في بعثة دبلوماسية إلى الغرب وذلك سنة 1623 – 1623, ومع كل هذا لم تظهر أية إشارة في حياتهم العملية وفي أعمالهم تدل على أن هذه كانت باعثا مهما لدراستهم للعربية.

إن شخصيات مثل سكاليخر الذي حث فان اربين على دراسة اللغة العربية, وكذلك كازوبونوس الذي دعم فان اربين ليصبح أو أستاذ كرسي الدراسات العربية منذ بداية سنة 1613, فلم يكن اهتمامهما بالتبشير كما لم يكن بالفائدة العملية للغة العربية وإنم كان اهتمامها الأول ذا دوافع علمية, وكل الدلائل تشير إلى هذا الأمر, فلم يدر في خطبة فان ارين الافتتاحية سنة 1613 إلا كل حمد للحضارة العربية والأدب العربي, للتاريخ والفلسفة, وكما اهتم خول بالمؤرخين العرب كذلك اهتم بالرياضيات العربية لذاتها ولمضمونها, وليس كما هو عليه الحال في أيامنا هذه حيث نرى في الرياضيات العربية مرحلة مهمة في تاريخ العلوم فقط, وعلينا أن نأخذ في الحسبان أن نهاية القرن السادس عشر وبداية السابع عشر قد شهدت بداية ازدهار العلوم في أوروبا فرأى العلماء في أوروبا أنه بإمكانهم التعلم من الكتابات العربية في الرياضيات وفي علم الفلك غير ناسين الطب, وحقا لم يظهر مستشرقو القرن السابع عشر فهما عميقا بالإسلام ولكنهم أبدوا إعجابهم بالحضارة العربية.

لقد كان حظ جامعة ليدن كبيرا بوجود مستعربين بارزين وهما فان اربين وخول ولقد استمرت هذه السعادة بسبب وجود فارنر الذي كان أحد طلاب خول الذي عين سنة 1654 ممثلا لهولندا في القسطنطينية, ولم يكن فارنر هذا دبلوماسيا فحسب وإنما عالما أيضا فقام بجمع العديد من المخطوطات النفيسة أثناء تواجده في القسطنطينية ثم أورثها مكتبة ليدن الجامعية, وهكذا حصلت الجامعة على العديد من المخطوطات ذات الأهمية الكبرى والتي بإضافتها إلى المخطوطات التي اشتراها خول لحساب الجامعة, جعلت من مجموعة ليدن من أهم مجموعات العالم.

بعد موت خول سنة 1667 مرت سنوات عديدة قبل أن تتمكن جامعة ليدن من تعيين عالم لكرسي للغة العربية يمكن مقارنة مستواه بمستوى كل من خول وفان اربينو وفي أثناء ذلك تم تعيين ريلاند في اوتريخت وذلك سنة 1701, وقد اشتهر ريلاند بكتابه " الديانة المحمدية " والذي صدر عام 1705, ويمكن اعتبار هذا الكتاب معلما من معالم الاستشراق لأن ريلاند قام فيه بدحض العديد من الاتهامات ضد الإسلام والتي كانت سائدة في ذلك العصر, منها سخف اتهام المسلمين بعبادة فينوس في مكة.

كانت هذه النزاهة العلمية أمرا نادرا في ذلك العصر, إلا أنها كانت بداية موفق الإسلام سوف يصبح عاديا فيما بعد, أي في القرن الثامن عشر والذي كان بالإمكان تطويره إلى الإعجاب بالإسلام.

وأخيرا عاد إلى الدراسات العربية في ليدن بعض من بريقها القديم وذلك في القرن الثامن عشر على اثر تعيين الأستاذ سخولتينس أستاذ كرسي اللغة العربية وذلك سنة 1729.

لقد كان اهتمام سخولتينس الرئيسي منصبا على استعمال اللغة العربية كوسيلة لشرح العهد القديم ,وكما رأينا فقد كان هذا موضوع اهتمام المستشرقين منذ البداية, وعلى الرقم من أن نظريات سخولتينس ما كانت لتصمد أمام الأختبار العسير لبحث اللغات المقارن العصري, إلا أنها كانت في عصره مثيرة إلى حد ما , ففي خطبته الأفتتاحية أصاب سخولتينس العديد من اللاهوتيين بصدمه عندما قال إنه ما كان علينا أ، نعتبر اللغة العربية ابنه اللغة العبرية, وإنما علينا اعتبارها كأخت توأم لها, وبعبارة أخرى: إن لغة العهد القديم لم تكن أقدم لغة, على كل حال لم تكن أقدم لغة سامية, ويبدو أن في هذا الكثير من الجرأة في عصر سخولتنيس, كيث كان من الصعب على علماء القرن الثامن عشر الانعتاق من حيرة اللاهوت.

إلا أن هذا النوع من البحث لم يكن اهتمام سخوليتنس الوحيد, فمثل كثير من علماء القرن الثامن عشر , قام تخصيص الكثير من وقته للأدب العربي القديم وذلك يبدو من كتابه حول " مقامات الحريري " الذي كان الأكثر مقروءا من كتب الأدب العربي القديم, أما ما الذي خصص معظم اهتمامه لهذا الادب فكان خليفة سخولتين , الا وهو الاستذا سخوليتنس.


المصدر : كتاب هولندا والعالم العربي

تعليقات