تقع الصين في شرق
آسيا, وأراضيها مترامية الأطراف, وتتمتع بالتاريخ والثقافة الموغلة في القدم, وقبل
مليون سنة تقريبا " عمل الأجداد والأوائل للأمة الصينية وعاشوا وتناسلوا فوق
ه1ه الأراضي الشاسعة, وقبل تأسيس أسره شيا اجتاز التاريخ الصيني – مثل تاريخ
القوميات القديمة في العالم – مرحلة المجتمع البدائي, وعاش الصينيون الحياة
الشيوعية البدائية حيث العمل المشترك, والاستهلاك المشترك, ولا يوجد استغلال , ولا
توجد طبقات اجتماعية.
وقد ارتبطت نشأة
الأفكار والمفاهيم ولإدراك – في المقام الأول – ارتباطا مباشرا بالأنشطة المادية
للبشر وتبادلاتهم المادية, وبلغة الحياة الواقعية , وفي عبارة أخرى , أن العمل
الجسماني الشاق صنع البشرية والمجتمع البشري, وفي الوقت ذاته عزز أيضا نشأة القدرة
على التفكير والمعرفة لدى البشرية وتطويرها, وقام البشر بإعادة تشكيل الطبيعة
وتغيير طبيعة أعضائهم الفيسيولوجية, لأنهم خاضوا كفاحا طويلا مع العالم الطبيعي,
ونظرا لاحتياجات العمل الشاق المشترك فقد عرف الإنسان كيفية استخدام النغمات
والأصوات المعقدة تدريجيا للتعبير عن المعاني المتباينة, وخرجت اللغة الإنسانية
إلى حيز الوجود عندما تطور جهاز النطق لديه رويدا رويدا, ودفع العمل الجسماني
الشاق واللغة التحول التدريجي للعقل الإنساني إلى الأمام, إن الحواس التي تقوم على
خدمة العقل , والوعي الذي يزداد وضوحا, وتطور القدرة الاستنتاجية والتحليلية لدى
الإنسان أثر تأثيرا كبيرا في العمل الشاق واللغة وقدم لها قوة دفع جديدة م أجل
تطورها, واستطاع البشر تجريد خصائص الجوهر والمشترك للأشياء المعنية المحيطة بهم
لأن قدرتهم على التعبير عن العالم المحيط بهم قد تعزز كثيرا, واستخدموا الكلمات
لتحديد هوية تلك الأشياء وتشكيل المفاهيم, ويعد ذلك بمنزلة مصدر الفكر الإنساني
والأولي.
وعلى الرغم من أن
الصينيين الأوائل كانوا في الكومونة البدائية يخضعون بصورة كاملة تقريبا لقوة
العالم الطبيعي العفوية, ولكنهم احرزوا تقدما على ط ريق معرفة القوة الطبيعة بصورة
مستمرة والسيطرة عليها , والانتقال من معرفة اللاشيء إلى معرفة بعض الشيء عن
الطبيعة , ومن المعرفة الضئيلة إلى المعرفة الأكثر ثراء, وفي الصين سجلت الوثائق
القديمة عددا غير قليل من أساطير القدماء الصينيين, وعلى الرغم ممن أن تلك
الأساطير ليست تجسيدا عمليا للمجتمع والطبيعة , ولكنها تتسم بالمغزى الإيجابي من
حيث إعادة تكوينهما.
وفي الأساطير الصينية
القديمة تلتقي بعدد من الحكماء مثل حكيم يسمى " باني البيوت " الذي يشيد
البيوت لحماية الناس من الخطر وحكيم يدعى " صانع النار " الذي يضرم
النيران عن طريق ثقب الصوان للتخلص من الرائحة الكريهة وحكيم آخر يطلق عليه فوش الذي
كان يستخدم الحبال في صنع الشباك للصيد البري وصيد الأسماك وحكيم يعرف بفلاح الجن
الذي يصنع الأدوات الزراعية من الخشب, ويعلم الصينيين فن الزراعة, وعلى الرغم ن
أنتلك الأساطير امتزجت بخيال الأجيال التالية, ولكنها جسدت إلى حد ما الخلفية
الحقيقية لحياة الإنسان الصيني في العصور القديمة, وجسدت تطور قدرة التفكير
والمعرفة لدى القدماء الصينيين أيضا , كما توضح تلك الأساطير أن البدائيين
استطاعوا بصورة تدريجية تجميع بعض خبرات الصراع مع الطبيعة الكبرى من خلال
ممارستهم العمل الجسماني الشاق ردحا طويلا, وأصبح لديهم المعارف المتواضعة
المتعلقة ببعض الظواهر والقوانين البسيطة في العالم الطبيعي, ولم يساعد ذلك
الصينيين على التصدي للعالم الطبيعي بصورة كبيرة والتحسن المطرد لأحوال حياتهم
المادية فحسب , بل جعلهم ينفصلون عن هذا العالم, كما ادركوا أن العالم الطبيعي لا
يعتمد عليهم , وأنه قائم بصورة مستقلة, وربما عرفوا كيف يسيطرون على طبيعة هذا
العالم تدريجيا , ويعد ذلك مرحلة تتسم بالأهمية القصوى في تطور إدراك البشرية.
وبالإضافة إلى
الأساطير الصينية مثل طائر نيووا يصقل الحجر ويرمم السماء, وبان قو يفصل السماء عن
الأرض, وهو يي يسقط الشموس بالسهام وغيرها من الأساطير القديمة الأخرى, على الرغم
من انها نسيج الخيال, فإنها " اعتمدت على الخيال واستعانت به لقهر القوى
الطبيعية والسيطرة عليها, ويوضح ذلك انه مع تقدم الإنتاج, زادت قدرة الصينيين
وثقتهم في أنفسهم في صراعهم مع الطبيعة الكبرى ومن ثم تولدت لديهم التطلعات
الطموحة التي تهدف إلى قهر القوى الطبيعية
وإخضاعها, وجسدت الأساطير المذكورة أنفا تلك التطلعات بصورة حيوية , وأصبحت
ايمان الإنسان الصيني بقدرته على قهر الطبيعة بمثابة إرهاصة توالد الفكر اللاديني
في العصر الصيني القديم, وعلى الرغم من أن الأساطير الصينية القديمة تعرضت للتهذيب
والتنقيح الفني المستمر من قبل الأجيال المتعاقبة, ولكن تناقلتها الألسن منذ
المجتمع البدائي وبلورت حمة القدماء الصينيين, وتعد الرموز المنقوشة على الأواني
الفخارية التي تم اكتشافها في مدينة شيان والتي تنتمى إلى ثقافة يانغ شاو التي ازدهرت
منذ ست أو سبع آلاف سنة خلت, بمنزلة مصدر الكتابات الأولية في الصين, وتعد تلك
الكتابات من أقدم الصور والرموز التي عرفتها البشرية في طريقة الكتابة وأظهرت
للعيان قدرة القدماء على التفكير.
الحقائق التاريخية
صحة ذلك , وأمن الصينيون أن هناك روحا تستطيع أن تنفصل عن أجسادهم, واعتقدوا أن
التفكير والإحساس ليسا من انشطة أجسادهم , بل أنهما من أنشطة روح فريدة تسكن الجسد
وتفارقه عند الموت, وذلك من جراء أنهم لا يعرفون شيئا عن التركيب الفسيولوجي
لأجسادهم , عجزوا عن تفسير أسباب الأحلام ومن هنا تولدت فكرة خلود الروح, وفي
مقبرة إنسان الكهف العلوي في تشوكوديان بالقرب من العاصمة الصينية بكين, ثم اكتشاف
ذخائر الميت والصوان والأواني الحجرية واللآلئ الحجرية , أسنان الحيوانات المثقبة
وغيرها من أدوات الإنتاج والحاجات اليومية, ويوضح ذلك أن الإنسان البدائي كان
يعتقد أن الميت يستمر في ممارسة الأنشطة التي كان يقوم بها في حياته, وهكذا نشأت
عبادة إله الأسلاف, وتشكل في وعي الصينيين الوهم الديني الذي يفوق قوة الطبيعية
لأنهم لم يدركوا أسباب الظواهر الطبيعية مثل الشمس والقمر والجبال والأنهار
والرياض والأمطار والبرق والرعد والزلازل وغيرها ومن ثم ظهرت عبادة إله الطبيعة
وجاء في كتاب " تسوه " تاريخ الأحداث التاريخية ان " توارث الجفاف
والأمطار والأوبئة المسئول عنها إله الجبال وإله الأنهار ويجب أن نصلي لهما , أما
فوضى سقوط الثلوج وهبوب الرياح المسئول عنها آلهة الشمس والقمر والنجوم ويجب أن
نصلي لهم أيضا" ويشير ذلك إلى ظهور عبادة آلهة الشمس والقمر والجبال والأنهار
والنجوم وتقديم القرابين لها ".
ويعد ذلك في حد ذاته
انعكاسا للأوهام التي كانت تدور في أذهان البشر من أن هناك قوى خارجية تهيمن على
حياتهم العادية, واتخذت القوة البشرية في داخل تلك الأوهام أشكال القوى الخارقة
للبشر, وشكلت عبادة أرواح الأسلاف وفكرة عبادة المخلوقات الطبيعية المصدر الأولي
للأديان في الصين القديمة, ويعد ذلك بمنزلة إرهاصات الفكر المثالي, وبعد أن شهدت
البشرية المجتمع الطبقي, استفادت الطبقة الحاكمة العبودية من الدين البدائي وقامت
بتعديله واعتبرته وسيلة روحية الاستعباد الجماهير الكادحة.
كما ظهرت الأفكار
الفنية مبكرا داخل المجتمع الصيني البدائي, وقد عرفنا أن إنسان الكهف العلوي في
تشوكوديان بالقرب من بكين قد استخدم أسنان الحيوانات المثقبة وعظام الأسماك
والسلاحف واللآلئ الحجرية المرصعة بالحديد المصبوغ بالأحمر الخفيف واعبرها من
أدوات الزينة, ويدل ذلك على أن هذا الإنسان كان يتمتع بفكرة عشق الجمال , وكان
البدائيون الصينيون يرقصون وينشدون الأغاني تعبيرا عن عبطتهم بعد الانتهاء من
العمل الجسماني الشاق وإحراز النصر في الحرب , قد يقيل أن جوان شي الذي ذكرت
الأساطير أنه ينحدر من سليل الإمبراطور هوانغ دي كان أول من أدخل الرقص والغناء في
الصين, وتشير دراسة للآثار إلى اكتشاف آلات النفخ الموسيقية الفخارية, مما يدل على
أن الموسيقى البدائية ظهرت في الصين منذ فجر التاريخ, كما تتصف الأواني الفخارية
الملونة التي شهدتها ثقافة يانغ شاو المزدهر, بالقيمة الفنية العالية والقيمة
التطبيقية لأشغال فنون التصميم والزخرفة ومرسوم عليها أنواع عديدة من تصميمات
النباتات الزخرفية والتصميمات الهندسية, وترمز بعض لك التصميمات إلى تماوج
الأمواج, وبعضها عبارة عن تفصيل تموجات القماش وشباك الصيد, وتعتبر تلك التصميمات
ثمرة الأعمال الفنية لتكوين الأفكار وجاءت نتيجة ممارسة الإنسان الصيني العمل
الجسماني الشاق, إنها صورة لحياة الإنسان البدائي.
وقد تشكلت الأفكار
الأخلاقية وعرفها المجتمع الصيني البدائي, على الرغم من أن النظرية الأخلاقية لم
تؤسس آنذاك, ولكن اكتسب الصينيون الأوائل المعايير الأخلاقية وهم يخوضون عباب
الحياة, وقاموا بتصحيح العلاقة بين أفراد العشيرة الواحدة من جهة وبين العشائر
والقبائل من جهة آخرى, وشكل العمل الجسماني الشاق المشترك والتعاون المتبادل
والتوزيع العادل وحب الأخوة الأشقاء والامتثال للقرارات الجماعية والاضطلاع
بمسئولية الثأر من أجل الأخوة الأشقاء والالتزام بالواجب البطولي في حرب القبيلة
شكل ذلك كله المعايير الأخلاقية التي احترمها البدائيون الصينيون وقد حددت
العلاقات الإنتاجية ذات الطبيعة المشتركة تلك المعايير, وجاء في الاساطير الصينية
القديمة أن فلاح الجن لا يصدر الأوامر والشعب ينصاع له ويحكم دون عقاب ويتولى
الملك بدون أسلحه ويعيش العشب في سلام ويعمل في اطمئنان ولا يرغب في أذى الآخرين,
ويوضح ذلك أن مجتمع العشيرة البدائي لم يعرف الاضطهاد الطبقي والاسترقاق ولم يعرف
أيضا الحكم العنيف الذي يتعالي على الجماهير والجميع ينصاع ويعمل حسب المعايير
الأخلاقية المشتركة وكل افراد القبيلة يعملون ويعيشون معا في بيئة تتسم بالمساواة
والوفاق وتضافر الجهود, وجسد كتاب " الطقوس " الأحوال الاجتماعية ما قبل
اسرة شيا, وجاء فيه " عند الالتزام بالطاو – الطريق المستقيم - أصبح العالم ملكا للجميع وتم انتخاب الرجال من
ذوي المهارة والكفاءة والفضيلة – في الانتخاب الديمقراطي لإمارة القبيلة -, وذلك
تأكد الإخلاص وترسخت الصداقة , والرجال يحبون الوالدين ولا يعاملون أحدا معاملة
الأطفال إلا أولادهم, الرجال لهم أعمالهم المناسبة والنساء يقمن في البيوت, الرجال
يكرهون أن تكون الموارد الطبيعية متخلفة, ولكن لا يدخرون الثروة لأنفسهم – الملكية
المشتركة للممتلكات – انهم يبغضون عدم بذل الجهود المضنية ولكنهم أيضا لا يدخرون
وسعا من اجل منفعتهم الذاتية – كل فرد حسب قدرته – وتم قمع المكائد والأنانية – لا
يوجد خداع واحتيال – ولم تعرف البلاد اللصوص والخونة والمتمردين – لا توجد سرقة
ولا نهب – ومن ثم ظل الباب الخارجي مفتوحا وذلك ما يطلق عليه الوفاق الأعظم وشهدت
مثل تلك الخصائص الأخلاقية للشيوعية البدائية التغييرات التدريجية في مرحلة
الانتقال من المجتمع البدائي إلى المجتمع الطبقي, وعندما شهدت أسرة شيا المجتمع
العبودي, أصبح التعبير عن إرادة الطبقة العبودية يحتمل مكانة الأخلاق الحاكمة في
المجتمع الصيني.
وعلى الرغم منم أن
العديد من وجهات النظر ومشاعر الإدراك المذكورة أعلاه تعرضت لقيود الإنتاجية
المتدنية للغاية حينئذ ولا يمكن أن تكون نظاما فكريا متعمقا نسبيا ولكنها تعتبر
المصدر الفكري الأولي للبشرية أما منظومة الأفكار التي تتمع بأهمية التعبير الدقيق
حقا في المجالات الفلسفية السياسية والاقتصادية فقد ظهرت عندما ارتفع مستوى القوة
الإنتاجية على حد ما فيما بعد.
المصدر : كتاب تاريخ
تطور الفكر الصيني
تعليقات
إرسال تعليق