الفاكهة المحرمة



اذا طرحنا السؤال التالي: ما هو علم الجنس؟ سيجيب معظم الناس المتعلمين بأنه فرع من فروع الطب قاصدين بذلك علم الجنس المرضي على الأرجح. في حين أن مصطلح " علم الجنس " حمل منذ نشأته معنى إصلاحيا, بل حتى موسوعيا يجمع بين عدة فروع معرفية. في عام 1909 وفي معرض تعليقه على كتاب " فوريل " " المسألة الجنسية " تساءل الكاتب والناشر الروسي العروف " فاسيلي روزانوف " : لماذا لم يفكر ولا ألماني واحد تى الآن, مع ما يعرف عند هذا الشعب من حب للتنظير والتصنيف, بمصطلح " علم الجنس " كعلم خاص عن الجنس أو الأجناس, في الواقع كان هذا الشخص موجودا, ففي عام 1907 وفي كتاب " الحياة الجنسية في الوقت الحاضر وعلاقتها بالثقافة المعاصرة " اقترح بلوخ إنشاء علم جديد عن الجنس مشيرا إلى أن هذا العلم يجب أن يمجمع معطيات كل العلوم المتعلقة بلإنسان كالبيولوجيا العامة وعلم نشوء الإنسان وعلم الأعراق والسلالات والفلسفة وعلم النفس والطب والتاريخ ولأدب والثقافة.

بالطبع, لا تعني ولادة مصطلح جديد وإنشاء فرع معرفي جديد الشيء نفسه, فلقد اهتم الناس بمسألة الجنس دوما, واحتوت الأساطير القديمة والنظريات الفلسطفية فيما بعد شروحا محدد حول طبيعة الفروق بين الجنسين ومعلومات عن تشريح وفيسلوجية الأعضاء التناسلية, وعن تقنية الجماع والإلقاح والحمل والولادة. وبفضل الخبرة التاريخية المكرسة فيها فإن الرسائل القديمة عن " فن الفراش " و " الكاماسوترا " الهندية أو " علم الحب " لأوفيدي في الوقت الراهن ليس لها أهمية تاريخية فحسب, ولكن علم الشبق Erotology أي نظرية وفن الحب العملي لم يكن يهدف لدراسة الجنس بحد ذاته, بل كثف وعلل النظرات التعارف عليها حول الجنس في مجتمع معين.

إن المقدمة الضرورية لبحث الجنس عليما هي تخطي النظرات الدينية والصوفية المرتبطة به, والموقف المبدئي المتعلق بعد تحليل الحياة الجنسية عن طريق استخدام مصطلحات دينية وأخلاقية لا لأنها تختلف عن مجتمع لآخر فقط, بل ومن منطلق تاريخي-طبيعي وعلى أساس وقائع مبرهنة وموثوقة. وقد تحققت هذه المهمة لأول مرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فلماذا حدث كل هذا التأخير؟, لآن الدراسة الموضوعية للجنس لم تكن ممكنة بدون التطور المسبق لكل مجموعة العلوم البيولوجية والاجتماعية, وعلاوة على ذلك, كان لا بد من تذليل المعارضة الهائلة للكنسية والوقوف بوجه النفاق البرجوازي, فقد كانت الأخلاق الرسمية للمجتمع البرجوازي في أواسط القرن التاسع عشر مطعمة بالمفاهيم المعادية للجنس, وقد اعتبرت الحياة الجنسية, وعموما كل ماله علاقة بالجسد, اشياء قذرة وبذيئة لا يجوزللناس الشرفاء التفكي بها ناهيك عن التحدث عنها جهارا, ففي انجلترا في بداية القرن التاسع عشر كان من غير المؤدب الطلب إلى المرأة الجالسة خلف منضدة العطعام تقديم رجل الدجاجة لأن ذلك يثير تدعيات جنسية مزعومة!, وعند زيارة الطبيب كانت المرأة تري مكان الآلم ليس على جسدها بل على جسد لعبة, وتم في بعض المكتبات فصل الكتب المؤلفة من قبل النساء عن كتب المؤلفين الرجال.

وانتشرت الرقابة الأخلاقية بشكل واسع في القرن التاسع عشر, فانطلاقا من تصورات خاطئة عن التأدب حظرت مؤلفات روسنر ولافونتين وروسو وفولتير وبريغو وبيراني ومؤلفين آخرين, وفي عام 1857 حدثت في فرنسا محاكمتان قضائيتان تمت في إحداهما تبرئة مؤؤلف رواية " مدام بوفاري " لأن تدنس المقدسات, وحدث مثل هذا في بلدان أخرى ايضا, حتى ان مجرد طرح مسائل الحياة الجنسية في مثل هذه الضروف تطلب مروءة شخصية كبيرة.


كان الأطباء هم أول من درس الحياة الجنسية بصورة منهجية, ولكن الدراسات تناولت أشكال الجنس المرضية, يذكرون من بين مؤسسي علم الجنس استاذ جامعة فيينا ريهاردفون كرافت ايبينغ وطبيب الأمراض العصبية وعالم النفس والحشرات افغوست فوريل وعالمي النفس الألمانيين البرت مول وماعنوس هيرشفيلد وعالم النفس النمساوي ومؤسس التحليل النفسي زيغموريد فرويد وطبيب الأمراض الجلدية والزهرية الألماني ايفان بلوخ والكاتب والناشر والطبيب الإنجليزي هنري غيفلوك ايليسن, كان هؤلاء اناس مختلفين بكل المقاييس, فالملكي المحافظ مول لا يرتبط بأية علاقة ايدولوجية مع الأشتراكي الديمقراطي هيرشفيلد أو مع المسالم والعقلاني فوريل, واختلفت كذلك المواقف النظرية لهؤلاء, ولكن جميعا تعرضوا لمصاعب شتى, فمثلا كان كرافت ايبينغ عالم النفس الألماني الموقر ومؤلف او دليل منهجي في الاضطرابات النفسية الجنسية قد كتب بعض الفصول الطريفة باللغة اللاتينية حتى لا يستطيع القراء العاديون فهمها. وأكثر من ذلك, فقد اهتم معلق المجلة الطبية الانجليزية الرائدة في عام 1891 المؤلف بالتلذذ بالتفاهات الوسخة وأفصح عن أمله بأن الأوراق التي طبع عليها هذا الكتاب ستستعمل من أجل مثل هذه الحاجات السافلة, وارتفعت كذلك أصوات مطالبة بحرمان كرافت ايبينغ ممن لقة كعضو فخري في الجمعية الطبية النفسية البريطانية, وكان بلوخ قد نشر أغ مؤلفاته في علم الجنس باسم مستعار, اما الرقابة الانجليزية فاعتبرت مؤلفات ايليسن بذيئة وتعرض المؤلف نفسه للملاحقة القضائية, وهذا ولم يفكر أحد من الأطباء والعلماء المشهورين في ذلك الحين بالدفاع عن أعمال هذا المؤلف التي تعتبر بحق كلاسيكية, من جهة أخرى, حطم الفاشيون الألمان معهد علم الجنس الي أسسه ماغنوس هيرشفيلد وتعرض الطبيب وعالم تاريخ الإنسان الإيطالي باولو مانتيغاتسا بسبب كتابه العلاقات الجنسية البشرية لحملة كادت ان تسفر عن حرمانه من منصبه العلمي كأستاذ ومن معقهده في مجلس الشيوخ, وحدثت وقائع عديدة من هذا النوع فيما بعد, مما جعل تاريخ علم الجنس تريخا معذبا.

وحتى اكثر الباحثين المحظوظين الذين خلفوا آثارا علمية معروفة, عاشوا وعملوا لسنين طويلة في أوساط العداوة والاتهام وخاصة فيما يتعلق بالجوانب الجنسية من شخصياتهم, يهتم بهذه الناحية ايضا الكتاب المعاصرون لسيرة حياة هؤلاء العلماء, وهكذا تحولت الفكرة الإلهية القديمة عن الحياة الجنسية كخطيئة في وعي الجماهير إلى اعتقاد ثابت, حتى ان كل من يهتم بهذه الناحية اعتبر غير طبيعي جنسيا, وعموما يمكن القول أن اهتمام العالم بهذه أو تلك من الموضوعات فسر بمشاكل حياته الخاصة, ولكن هذا نادرا ما يصادف, وإن نفس هذه المشاكل يمكن أن تكون مختلفة, فلا احد يفكر بالطبع أنه على النهمين فقط ان يمارسوا على وظائف التغذية, ويدرس الذين عندهم عيب في النطق العلوم اللغوية, ويهتم الذين عندهم ميل للاجرام بعلم الاجرام, وهكا فإن الجنس موضوع اهتمام عام ومشكلة, فيعتقد أحدهم بأن لديه الناحية الجنسية المفرطة في حين يعتبرها الآخر ناقصة.

ان وجود مشاكل خاصة عند المرء لا تمنعه من دراستها موضوعيا, وإلا لبقيت أهم المسائل بدون دراسة, فالنساء لا يستطعن الحكم على النفسية النسائية لأنهن يتحيزن, ولا يستطيع الرجال ذلك لأنهم غير جديرين, والعامل لا يستطيع دراسة وضع الطبقة العاملة بسبب مصلحته الخاصة وعدم كفاية معارفة العلمية, في حين لا يستطيع المثقف ذلك بسبب رغبته عن البيئة العمالية, هنا تتشكل حلقة مغلقة. وإذا كان الإنسان يستطيع دراسة ما يرتبط به شخصيا فقط, فإن المعرفة العلمية غير ممكنة مبدئيا, فالأوروبي لا يستطيع فهم الافريقي, ولا يمكن للمعافي دراسة المريض النفسي, وإذا كانت الخبرة الشخصية مضرة بالمعرفة, فدراسة المشاكل الإنسانية تتطلب دعوة سكان كوكب المريخ على ما يبدو, ولكنه في هذه الحالات بالذات تتبين أهمية الدراسة العلمية التي تعد مفاهيم موضوعية تسمح بدورها بتقدير درحة موثوقية مختلفة الآراء والنظريات بشكل مستقل عن الأحاسيس والعواطف الذاتية التي عاناها مؤلف هذه الآراء أو النظريات, وهذا ينطبق على علم الجنس.

لقد بدأ تحرر المعارف الجنسية من ربقة العقائد الأخلاقية والدينية الجامدة فيمجال البيولوجيا اولا, ليس فقط لأن الجنس ظاهرة بيولوجية شاملة بل لأن البولوجيا كانت من أكثر فروع العلوم الطبيعية تطورا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, أما نظرية التطور لداروين فقد قدمت مثالا منهجيا لتطور العلوم الأخرى, ليس من الصعب كذلك أن نفهم لماذا بدأت دراسة مسألة الجنس من جانبة المرضي وليس الطبيعي, فالحياة الجنسية العادية بدت للعلماء بسيطة ولا تتطلب شروحا خاصة, أما الشذوذات الجنسية فموضوع آخر, حيث ادجت في عدادها كل اشكال السلوك الجنسي المدانة انطلاقا من أخلاقية القرن التاسع عشر, أي كل جنس غير مرتبط باستمرار النوع الذي بدا وكأنه وظيفة الجنس الوحيدة.

وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ظهرت بوضوح نزعتان مستقلتان في تطور على الجنس النظري, فمن جهة, خفت حتميات البيولوجية الصارمة تدريجيا وفسح المجال لظهور نظريات في علم النفس أدق وأعقد, ومن جهة أخرى اغتنى وتعتقد مفهوم الطبيعي نفسه على قاعدة تظمينة مجالا واسعا من التغيرات.


عند نقد سذاجة النظريات البيولوجية المتعلقة بالجنس في القرن التاسع عشر يجب أن نتذك محدودية مبدأ الإختزال البيولوجي الذي يحاول تفسير جميع الظواهر الاجتماعية والنفسية بقوانين بيولوجية مبسطة, كما أن البيولوجيا نفسها التي صفق لها علماء ذلك الوقت طويلا كانت ضعيفة التطور ايضا, وبسبب عدم كفاية الوقائع التجريبة - لم تكن الهرمونات الجنسية قد اكتشفت بعد - فقد تم ملء الفراغ بواسطة انشاءات وافتراضات عامة انطلاقا من الوعي المحدود والأخلاق البرجوازية السائدة.

ورأى مذهب التطورية في القرن التاسع عشر ان الماضي هن فقط مقدمة للحاضر, ولكنه نظر إلى هذا الحاضر نظرية مثالية بصورة لا إرادية, وينطبق ذلك حتى على كلاسيكي العلم, إذ اعلن تشارلز داروين مثلا في كتاب نشوء الإنسان والإصطفاء العرقي بأن الاخلاق الجنسية تتطور من فوضى التوحش إلى الاخلاق العليا المتمثلة في احادية الزواج وذلك بفضل القانون البيولوجي الطبيعي, وبنفس الدرجة بدت لداروين الفروق النفسية بين الجنسين متعارضة , عدوانية الرجل وحزمه تتكاملان مع سلبية المرأة ورقتها.

وأذا كان اموقف من الامتناع الجنسي فد تعزز بالحجج الأخلاقية الدينية القائلة بالخطيئة وبانحطاط الحياة الجسدية ففي الوقت الحاضر تبرز في المقمة حجج بيولوجية كاذبة, مثل الحديث عن ان تبذير الطاقة الجنسية ينضب القوى الحياتية للبدن والتي يجب ان تستعمل في اشياء ذات فائدة اكثر, إن اغلب بيولوجي القرن التاسع عشر, مثلهم مثل اللاهوتيين المسيحيين, رأو في استمرار النوع معنى ومبررا وحيدا للحياة الجنسية, وقد بدت جميع الأشكال الجنسية التي تبغي اهدافا أخرى غير مرتبطة بولادة الأطفال من خلال هذه النظرة أعمالا لا أخلاقية وحتى ضد الطبيعة, وبالطبع لم يكن لمعارضة الطبيعي واللاطبيعي معنى واحدا ثابتا في كل الأوقات, فما الذي يعنيه مثلا القول " اسلك سلوكا طبيعيا ", هل هو الاقتداء بمثال الطبيعية؟, أنها مقولة غير واضحة اساسا لأن الطبيعة تقدم مجموعة من الأمثلة في الوقت نفسه, كما أن الإنسان نفسه يغير الطبيعية جذريا منشئا طبيعة ثانية, وهل المقصود هو تقليد الحيوانات في هذه الحالة تقهقهر كل التاريخ الثقافة إلى الحضيض, وأكثر من ذلك , تسلك أنواع مختلفة من الحيوانات سلوكا مختلفا, أم أن المقصود هو االاهتداء بالوظيفة المنوطة بأعضاء الجسم مستعملين هذه الأعضاء بهذا الشكل فقط وليس بغيره, بيد أن للكثير من الأعضاءوظائف مختلفة, كما ترتبط هذه الأعضاء مع بعضها البعض بصوة وثيقة ومتبادلة, وينطبق هذا تماما على الجهاز التناسلي, وهكذا فإن الدعوة إلى الطبيعة تخفي فقط اللامعرفة والمحافظة الايدلوجية.

ومهما كانت النظرية البيولوجية الطبية محاظفة فهي بالتأكيد ترح تساؤلا, لماذا؟, فبالنسبة كان الشذوذ الجنسي خطيئة يحاسب مقترفوها أمام الاله والبشر, أما بالنسبة للعلم فيتمثل بكونه مشكلة بحد ذاتها, فلماذا تنشأ هذه الظواهر الغريبة؟ مثل الرغبة الجنسية بأشخاص من نفس الجنس - السلوك الجنسي المثلي أو الجنسوية - والحاجة لارتداء ملابس الجنس الآخر - انحراف الملبس - وتعريض الشريك الجنسي لصنوف التعذيب -السادية - او الامتثال لهذا التعذيب - المازوخية - واضاعة المنى المثمين بدون فائدة - الاستمناء - وغيرها الكثير,

ونظر الطب النفسي الذي ظهر لأول مرة في القرن التاسع عشر إلى العالم في البداية من خلال اللونين الاسود والابيض, فالنفس الإنسانية إما صحيحة وأما معتلة, كما توجد إما حالة طبيعية وإما مرضية, بيد أن الأطباء لاحظوا في بداية القرن التاسع عشر أنه إلى جانب الأشخاص المجانين يوجد آخرون طبعييون في كل شيء ما عدا في ناحية خاصة محددة من حيواتهم.

في عام 1835 أجخل الطبيب والانثوغرافي الانجليزي جيمس بريتشارد فكرة الجنون الاخلاقي والشذوذات المرضية لبعض الأحاسيس والرغبات, ولكن بدون فقدان العقل, إن هذه الفكرة مناسبة تماما لوصف الانحرافات عن الحالة الطبيعية لأشكال السلوك الجنسي التي تناول مركبات منفردة للرغبة الجنسية

وصف الأطباء النفسيون في القرن التاسع عشر أعراض شذوذ جنسي متعددة الأشكال بالتفصيل, واشير من خلال مصطلع الشذوذ إلى الطبيعة العضوية لهذه الاضطرابات, وكأنها لا ترتبط ولا بأي شكل مع الجنس الطبيعي والصحيح, وبرز في هذا المجال بشكل خاص كرافت ايبينغ في كتابة الامراض الجنسية النفسية الذي يتحتوي أمثله سريرية كثيرة بيد ان تفسير هذه المعطيات يخلو من اي انسجام, وكمثال على ذلك يمكن اخذ مناقشة التي استمرت عدة سنوات بين كرافت ايبينغ وبين عالم النفس الفرنسي الشهير الفريد بيتي حول طبيعة الفيتشية, وقد اعطى كرافت ايبينغ كمدافع عن موقف الحتمية البيولوجية اهمية بالغة للعوامل البنيوية, وعلى العكس, اشار بيتي إلى اهمية دور الارتباطات والعلاقات الجمعية, فقد يحدث الدفق المنوي عند مراهق فجأة ويصادف ذلك وجود امراة مرتدية منديلا معطر بالليلك, وينتج تثبت هذا الجمع تستثير رائحة الليلك عن المراهق تهيجا جنسيا فيما بعد حتى بغياب المراة نفسها, وهنا يبرز السؤال الاتي : لماذا يثبت هذا الجمع العابر عند شخص ولا يثبت عند آخر؟ يعتقد كرافت ايبينغ و مول بأن هذا يتعلق بالاستعداد الشخصي, ولكن ما هي طبيعة هذا الاستعداد وهل هو ولادي ام مرتبط بالخبرة الماضية عند الشخص, او بضرو تربيته وصدماته العاطفية الباكرة .. الخ؟ ودارت أكثر النقاشات حدة حول الحب بين افراد الجنس الواحد, وتبدو هذه النقاشات اليوم نظرية وتأملية وحتى غريبة . ولكنها وضعت ودققت الكثير من الاسئلة التي لم تفقد اهميتها في يومنا هذا, ويعتبر مول وفرويد من مؤسسي علم الجنس الطفولي, وان فكرة الاخير القائلة بوجود مرحلة خاصة من الخنوثة عند المراهقين تروق لبعض الباحثين حتى وقتنا الحاضر.

وصف هيرشفليج بالتفصيل انحراف الملبس واعتبره نتيجة خلل في التوازن الهرموني المذكر والمؤنث في عضوية, وكان له أثر البالغ كذلك في دراسة الجنوسة في عام 1908 أسس هيرشفيلد اول مجلة حنسية في العالم, وفي عام 1918 اول معهد لعلم الجنس " المركز العلمي التثفيقي للإرشاد والعلاج " الذي بقى حتى وصول النازيين إلى السلطة في المانية, ولكن مأثرة هيرشفيلد الهامة إنه كان أول من استعمل الاستفتاءات الجنسية الشاملة من نموذج الاستمارة, ففي عام 1903 وزع رسائل بدون توقيع تحمل سؤالا صغيرا عن الحياة الجنسية على 3 الاف طالب تلقى 1756 جوابا, وفي عام 1904 ارسلت رسائل مشابهة إلى 5721 عاملا برلينيا, ورغم عدم اكتمال طريقته فإن المعلومات التي حصل عليها ما زالت تستعمل في وقتنا الحاضر لغرض المقارنة.

كما قدمت العلوم الانسانية في بداية القرن العشرين دفعا جديدا لعلم الجنس السريري, وخصوصا الاتنوغرافيا والتاريخ, وكأن الرحالة والجغرافيون القدماء قد وصفوا عادات وتقاليد الشعوب الغريبة, ولفتوا الانتباه لحيواتهم الجنسية, وتوجد وقائع عديدة في العلوم الاتنوغرافية في أواخير القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر, بيد أن هذه المعلومات لم تكن ممنهجة وتذكر غالبا بمختارات الطرائف, ولم يكن المؤلفون الاوروبيون مؤهلين لتجاوز اخلاقهم الجنسية الخاصة , وبرأي انجلز نظر هؤلاء إلى تقاليد الشعوب غير الاوروبية في الظروف البدائية على انها بيوت للدعارة, فعندما سئل مبشر ديني انجليزي عن عادات واخلاق السكان الاصليين في استراليا اجاب بثقة " لا توجد اي عادات , والاخلاق بهيمية " إن ظهور علوم الاتنوغرافيا والانتروبلوجيا في القرن التاسع عشر قلب كثير من التصورات, وبما ان الثقافة الاوروبية لم تتعلم تحليل اخلاقها الجنسية الخاصة نقديا فليس بمقدورها دراسة الجنس عند الشعوب الغريبة موضوعيا, وقد تجنب معظم علماء الاتنوغرافيا والانسان في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هذه الاسئلة الحرجة, ولم يكن بالإمكان نشر هذه المواد إلا بصعوبة, ومع هذا قامت محاولات أولى بهدف تعميم المعلومات التاريخية الاتنوغرافية, مثل تطور الزواج والاسرة للاتنوغرافي الفرنسي شارل ليتورنو و تاريخ الزواج البشري للاتنوغرافي وعالم الاجتماع الفلندي ادوارد فيستر مارك .. الخ, وجيء بشواهد عن الرمزية الجنسية والسلوك في دراسات تاريخ الدين ودراسة الطقوس القديمة للتأهيل الاجتماعية, ولم تستطع الفلسفة الكلاسيكية البقاء مكتوفة الايدي امام مشكلة اللواط في حضارتي الرومان واليونان القديمتين ... الخ.

اخذ ايفان بلوخ على عاتقة أول محاولة لجمع المعطيات السريرية والثقافية المتعلقة بالجنس البشري, واعتقد بلوخ بأن المدخل البيولوجي إلى الجنس يجب أن يتكامل مع المدخل الثقافي التاريخي, وهذا بالضبط ما حاول بلورته في كتبه ومقالاته الكثيرة.

وعلى الرغم من أن أعمال بلوخ تبدو من وجهة النظر العلمية الحالية سطحية وغير موثوقة, فإنها كشفت عن وقائع كثيرة لم تكن معروفة عند معاصريه, مما دفع العلماء للبحث عن تفسير لها, ويميز المدخل المتكامل جميع مشاهير علم الجنس في بداية القرن العشرين مثل اوغيوست فوريل الذي اسمرت شهرة كتابه المسالة الجنسية حتى اواسط العقدالثالث من هذا القرن.

ان اعادة توجيه نظرية علم الجنس من البيولوجيا لجهة علم النفس تلاحظ بوضوح في اعمال هيفلوك ايليس الذي يعتبره فاسيلتشنكو من اعظم ممثلي الاتجاه الموسوعي في علم الجنس وأكثرهم موهبة, وتتمضمن دراسة ايليس المؤلفة من سعبة مجلدات بعنوان بحوث في علم نفس الجنس كل شيء كان معروفا في ذلك الوقت عن علم النفس الجنسي, وقد بلغ حماس ايليس مبلغة في توفه الانساني لفهم مختلف اشكال الجنس البشري, وذلك حتى لا يتم الحكم اعتباطيا على كل ما يختلف عن التصورات الثقافية المعاصرة او لا يستجيب لميولنا الذاتية, كما انه مهد الطريق لفهم مرونية الجنس البشري, وساهم أكثر من اي عامل آخر في محو التصورات الكاذبة والمخاوف المتعلقة بالاستنماء, وناضل المواقف طبيب  الامراض النسائية الهولندي تيوردور هيندريك فان دي فيلدي أواسط العشرينات وحتى قرننا الحالي , وتقد المراة في هذا الكتاب ال كموضوع بسيط للجنس المذكر بل كشريك كامل الحقوق يجب مراعاة احتاجاته تماما.

تعليقات