كن الإنسان يسعى إلى الوصول لمصالحة مع نفسه, وإنهاء التساؤلات التي
كان ينهش تفكيره بشراسة, فقد شاهد جمال الطبيعة وتجددها واستمرارها, تتالي الفصول
وتعاقب الليل والنهار وجمال النجوم وأشكالها, ونور القمر وسحره, موسيقى الأنهار
وترنيمات الطيور وتنوعها, حتى باطن الأرض وما فيه من عجائب المخلوقات وغرائبها,
فكانت تقف أفكاره عند سؤال واحد " كيف؟ " وما يعنيه هذا السؤال من عمق
وتشعب:
كيف بدأت الحياة؟
كيف مات الأسلاف؟
كيف غابت الشمس؟
كيف اهتزت الأرض؟
وإلى ما لا نهاية من الكيف التي أغرفته في هم لا نهاية له, فسعى بكل
وعيه وتفكيره وجهده لحل المعضلة, ووضع الأساس يستطيع أن يبنى عليه فكرته, فكانت
العبادات الأولى التي ترضى بعض فضوله, وتهدئ من روعه, وهي عبادات الأسلاف الذين
ماتوا واندثروا دون التعرض للكون ووجوده الأول, ومن ثم تطورت إلى مجموعة عبادات
بدائية, كانت تسعى في مجملها إلى تقديم القرابين والتقرب من أرواح الأموات فقط,
بعيدا عن خوض المجهول فيما قبل الأسلاف.
وبعد أن بدأت الأملاك المادية تزداد وتزدهر, وأصبحت متطلبات الحياة
اليومية تتكاثر بطريقة سريعة, حيث لم تكن ملابس الملونة وأدوات الزينة والأقراط
والأساور والقلائد والعطور من متطلبات الفرد, ولكن بوجودها أصبح لدى الإنسان هاجس
جديد وهو جمع الثروة والحفاظ عليها , وبما أنه كان ينتمي لمجموعة تطمع بما يطمع,
كان لا بد من حكم هذه المجموعات بسلطة أقوى من العنف ومن الاشتباكات اليومية, وباعتبار
أن هناك عبادات كانت سائرة بين المجموع, وجب وضع أسس لقواعد عبادات جديدة وغنية بفكرتها
ومضمونها, لتدحض ما قبلها, فبدأت ترتقي لأبعد من موت الأسلاف, وبجرأة فريدة إلى
التكوين الأول, وحل طلاسم أيقونة الوجود كاملة, فبدأت تدون أولى أساطير التكوين
التي كانت بمجملها تتحدث عن خلف الأرض والسماء والإنسان من قبل قوة خارقة تمثلت
بآلهة متشابهة للإنسان أو خلقت الإنسان على شاكلتها.
وفكرة الأساطير التي بدأت تتكون لم تكن كاملة كما نعرفها الآن, وإنما
كانت نصوصا تراكمية تنشأ حسب الحالة العامة لأصحابها القائمين على خدمتها, حيث
ذكرت أغلب أساطير التكوين بعد خلق السماء والأرض خلق الإنسان ليكون عبدا للآلهة
التي أورثته الأرض ليدير شؤونها ومصالحها, وهذه الفكرة كانت القانون الأول للخضوع,
حيث اصطفت الأسطورة طبقة معينة من الناس " العرافين " ليكونوا أولياء
على العامة, وليقيموا الطقوس اللازمة لاستمرار نعمة الآلهة على البشر, وعدت هذه
السلطة أكبر من السلطة السياسية التي كانت لا تقر إلا بمباركة المعابد والآلهة
التي تتحدث إلى العامة عن طريق شاماناتها وعرافيها.
التكوين الأسطوري كما ذكرنا كان يرجع إلى أهداف وخفايا وبواطن نفسية
تلبي رغبات القائمين عليها, فالطاعة والثراء والسلطة والحكم المطلق كانت تدغدغ
آمال العامة أجمع, فراحت تنبثق الآلهة الواحد تلو الآخر, كل في اختصاص ومكان وطقوس
ومعابد, فكثرت الآلهة الموجودة, وهذا ما جعل التنافس على السلطة المطلقة يدفع
بالأقلام لتدون أساطير تابعة لأساطير التكوين و رديفة لها, تبين حكم الإله الأقوى
وحكمته وقدرته الخلاقة, فكانت أساطير الموت والعالم السلفي والبعث والبناء
والزراعة والتشييد والتنجيم الذي أسر ألباب المفكرين الأوائل, وليرسوا أسس العلم
الأول في التاريخ المدون وهو علم التنجيم الذي يعرف على انه مجموعة من الأنظمة
والتقاليد الاعتقادات حول أوضاع الأجرام السماوية والمعلومات الشخصية وارتباطاها
بتلك الأجرام وغيرها من الأمور الدنيوية, وقد استخدمت المفاهيم الفلكية منذ
البدايات الأولى لذلك العلم خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد, ولعب علم التنجيم
دورا مهما في تشكيل الثقافة وعلم الفلك الأول, وكان المنجمون يزعمون أن حركات و
مواقف الأجرام السماوية تؤثر على الحياة وفوق الأرض, وحركتها ترتبط بإرادة الآلهة.
وكانت الحضارات العريقة في بابل وآشور تولي هذا العلم مركزا مرموقا,
حيث يتعبر الفرع الرئيسي من ثقافة بلاد الرافدين باعتباره إحدى الوسائل الرئيسية
التي استخدمها الكهنة لمعرفة الإرادة الإلهية ونية الآلهة, أما الطريقة الأخرى
فتكون من خلال التفتيش في أكباد الأضاحي البشرية المقدمة للآلهة, ويعتبر التنجيم
البابلي أول نظام تنجيم متكامل ظهر في الألفية الثانية قبل الميلاد, مع وجود
معلومات عن التنجيم السومري الذي ظهر في الألفية الثالثة قبل الميلاد.
لكن ذكر التنجيم الكهنوتي السماوي العلمي بالنصوص البابلية القديمة
المتأخرة في عام 1800 قبل الميلاد, ويبقى خلال الفترة البابلية المتوسطة الفترات
الآشورية المتوسطة 1200 قبل الميلاد, وبحوالي 1600 قبل الميلاد وظف علم التنجيم
لتقديم الأضاحي.
وجاء القرن السابع قبل الميلاد الذي كان يتميز بتنجيمه البدائي لعدم
قدرة المنجمين على التنبؤ بدقة بالظواهر السماوية في المستقبل وحركة الكواكب
البعيدة في وقت مبكر, وفي القرن الرابع قبل الميلاد كانت الأساليب الرياضية لديهم
قد تقدمت بما فيه الكفاية لحساب حركة الكواكب المستقبلية بدقة معقولة المرتبط
بالكواكب الأساسية الخمسة المشتري والزهرة وعطارد والمريخ وتمت تسميتها حسب الأدب
المسماري القديم بأسماء الآلهة البابلية, حيث كانت حركة هذه الكواكب الخمسة تمثيلا
لنشاط الآلهة الخمسة مع الشمس والقمر , فأرتبط الحوادث على الأرض بحسب نشاط هذه
الكواكب, إذ تتم من خلالها معرفة الإرادة الإلهية العليا, ورتبت الأسماء كالتالي:
الشمس : شمش
القمر : سين
المشتري : مردوخ
الزهرة : عشتار
زحل : نينورتا
عطارد : نابو
المريخ : نيركال
وبعد اعتماد التنجيم كأحد الأساليب في حكم المعابد وسلطتها, بدأت فكرة
توحيد الآلهة, لتتسع رقعة السلطة بأكبر قد ممكن, فحدث الانقلاب على الآلهة القديمة
بقيادة آلهة شباب جدد أقوياء استطاعوا فرض سلطتهم القوية على أغلب المعابد حينها.
تعليقات
إرسال تعليق